U3F1ZWV6ZTU1ODMyMTM5Mzk0OTkwX0ZyZWUzNTIyMzc0MTM4MzY2OA==

ليلة اصلاح المهدي المنتظر

 



إصلاح المهدي وموسى عليه السلام

هذه خاطرة أضيفها لما ذكرته عن إصلاح المهدي
الأولى هي إصلاح زوجة زكريا عليه السلام ، وذلك في قوله تعالى : ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ) [ الأنبياء ] والإصلاح هنا يراد به الإصلاح الجسدي لزوجته العاقر لكي تتأهل للحمل والإنجاب . ويتصور حصول مثله لسارة عليها السلام زوج إبراهيم عليه السلام .

الإصلاح الثاني هو إصلاح النبي محمد ( صلى الله وعليه السلام  )

وقد حصل له ثلاث مرات :

المرة الأولى :
وهذه حصلت للنبي عليه السلام وهو صبي في ديار سعد ، وكان عمره سنتان وشهران أو ثلاث سنوات ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ – يَعْنِي ظِئْرَهُ – فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ “، قَالَ أَنَسٌ: «وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ». [ أخرجه مسلم برقم 261]

المرة الثانية :
كانت مع بعثة النبي عليه السلام ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير قال ‏الحافظ في الفتح عند شرحه لحديث باب المعراج من البخاري قال: وثبت شق الصدر عند ‏البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل.‏ [ فتح الباري ( 7/205) ]

المرة الثالثة :
وهذه كانت مع رحلة المعراج كما ثبت في الصحيحين ، كما ورد عن أبي ذر يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( ” فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ) [ أخرجه البخاري برقم 349] .

كيف يصلح الله المهدي

إذا هذه ثلاث حالات إصلاح تعرض لها النبي عليه السلام خلال مراحل متنوعة من حياته ،

الإصلاح الأول ارتبط بموضوع العصمة من الدرجة الأولى ؛ لذا ارتبط بحظ الشيطان ،

والإصلاح الثاني أراه له علاقة بسورة اقرأ وبداية نزول الوحي لتكتمل معاني القراءة باسم الله كما سأبين في مقالة منفصلة ،

أما الثالثة فهي لها تعلق بانكشاف دائرة الغيب المتعلقة برؤية الآيات الكبرى ؛

لذا ارتبطت بأهم عنصر حيوي متعلق بعالم الغيب وهو الحكمة والإيمان كما بين الحديث في صحيح البخاري ، والمعلوم كما بينت سابقاً أن الحكمة بالذات تتعلق بعالم الغيب ولمزيد بيان أوضح بدليل من سورة الأنعام : {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }الأنعام73 فالذي يقابل عالم الغيب هو الحكيم والحكمة والذي يقابل عالم الشهادة هو الخبير والخبرة .. والنبي عليه السلام سيدخل لقراءة موسعة في دائرة الغيب عبر الملكوت ليرى من آيات ربه الكبرى ؛ لذا تم إصلاحه قبل المعراج ليتهيأ لهذه المهمة العظيمة بالأدوات المناسبة لها وهو ملء قلبه من الحكمة والإيمان .

موعد اصلاح المهدي

ولعل النبي تعرض لثلاث حالات إصلاح لعظمة المسئولية التي تميز بها من بين الأنبياء جميعاً .. فهو الرسول العالمي الوحيد والخاتم للنبوة .

وحالات الإصلاح الثلاثة هنا هي إصلاح تأهيل للمهمة الملقاة على النبي عليه السلام ، وقد تنوعت نوعية الإصلاح بحسب نوعية المهمة فما كان قبل البعثة مغايراً لما كان مرافقاً للبعثة ومغاير لرحلة المعراج .

نأتي الآن لموسى عليه السلام .. وهو هنا المحور الأساسي في موضوع إصلاح المهدي ، فموسى عليه السلام بالرغم من طبيعة الشخصية والكريزما التي تميز بها إلا أنه في نفسه كان للحظة الأخيرة لا يتصور أن يكون هو الرجل المقصود .. أو المخلص الموعود به عند بني إسرائيل ؛ حيث قدر الله سبحانه وتعالى في شخصيته بعض الأمور التي ظاهرها أنها مانعة في نظر صاحبها للقيام بهذه المهمة العظيمة ..

ما معنى يصلحه الله في ليلة

أما هذه الأمور فكان أولها ثقل في اللسان واضح جداً .. والأصل في الرسول أن يمتلك قدرة على البيان والفصاحة بأعلى الدرجات حتى يبين لقومه .. وهذه العلة أو المانع هي من أول الأمور التي واجهت موسى عليه السلام عندما حمل الأمانة ؛ لذا طلب من الله إصلاحها .. وذلك في قوله : واحلل عقدة من لساني .. لكن عقدة اللسان لا تكفي للمهمة فقط لذا طلب طلباً آخر مكملاً : {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }القصص34 .

فوزارة هارون عليه السلام ورسالته إنما كانت من الدرجة الأولى من باب التأييد لموسى في مهمته التي تعتريها بعض الموانع في نظر صاحبها .

وهذا المانع استخدمه فرعون لعنه الله للطعن في رسالة موسى عليه السلام ، يقول الله سبحانه وتعالى : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ }الزخرف52 فهذه قالها فرعون حتى بعدما انحلت عقدة من لسان موسى عليه السلام .
أما المانع الثاني وهو الأهم في شخصية موسى عليه السلام ، فهو سرعة غضبه وضيق صدره خاصة في المواقف التي يرى فيها الظلم … وهذا الموقف رأيناه من موسى في قصة الرجلين اللذين كانا يقتتلان .. فقتل المصري مباشرة بوكزة واحدة ، وبالرغم من ندمه على الحدث ، إلا أنه في اليوم الثاني يتعرض لذات الموقف ويقع في نفس الإجراء ({فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ }القصص19 .

كيفية اصلاح المهدي

إذا موسى عليه السلام لطبيعته كان يسير في نهج الإصلاح الدموي وهذا لا يتوافق ومضمون الإصلاح حتى أنه تم الاعتراض عليه بأنه يريد أن يكون جباراً في الأرض وما يريد أن يكون من المصلحين … حتى لو كان المصلحون في أدنى درجات الإصلاح في المجتمع هذا لا يتوافق معهم كما بينت الآية في الخطاب الحاصل فيها .

وهذا المانع بالذات كان هو المهيمن على موسى عليه السلام حتى اللحظة الأخيرة .. لذا كان – كما أظن – يستبعد أن يتصور نفسه هو الرجل الموعود .. وقد قدر الله هذه الموانع في الإمام المخلص في ذلك العهد من باب الحفظ له من ناحية .. ومن ناحية أخرى من باب الاصطناع له .. وشرح العبارتين أو الغايتين السابقتين يحتاج لمجلد لكي نستوعب دلالاتهما ؛ لذا أتركهما بعواهنهما مجالاً للتأملات للقراء .

وقضية ضيق الصدر وسرعة الغضب عند موسى عليه السلام كانت مهيمنة عليه لذا كان أول طلب له لإصلاحه هو قوله : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري .

تفسير يصلحه الله في ليلة

لكن بالرغم من الموانع السابقة في نظر موسى نفسه والتي جعلته يعيش صراعه الحياتي الخاص بعيداً عن تصور كونه الرجل الموعود حتى اللحظة الأخيرة التي استدرجه الله بها نحو طوى .. وخلال طرحي لقصة غصن الرب أجد أيضاً بين النصوص ما يوحي بوجود موانع تأهيل ، و هذه الموانع تنتهي بالإصلاح في اللحظة الأخيرة التي يفهم بها الإمام المهدي أنه الرجل الموعود .
كذلك نلحظ أن موسى عليه السلام كان لديه عقدة في لسانه وفي نظر فرعون لا يكاد يبين … لكنه عند الله كان الكليم .. بل هو الوحيد في الأرض من يطلق عليه هذا اللقب .. سبحانه : {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك14 ولئن كان موسى عليه السلام لا يتصور نفسه أنه الموعود حتى اللحظة الأخيرة .. ف (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) [ الأنعام ] .

لكن وجود بعض الأمور التي في ظاهرها أنها موانع لا يعني بأي وجه أن موسى عليه السلام لم يحز الكمال في زمانه ، ففي مجمل شخصيته كان كاملاً ومؤهلاً لأن يكون من الرسل أولي العزم .. وهو المؤهل الوحيد لكي يخاطبه الله مباشرة وهو في الحياة الدنيا .
هذه خاطرة طرحتها بين يدي موضوع الإصلاح أتممها بما كتبته في الموسوعة قبل 15 عاماً عن موضوع إصلاح المهدي ، ثم أخلص إلى النتائج من هذه المقالة .

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام

 : ( الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ . )

نلحظ في حديث علي رضي الله عنه إشارة نبوية إلى أن المهدي يصلحه الله في ليلة ، وهذا يحتمل أمرين :

الأول : إن الإصلاح هنا يراد به عصمة المهدي من بعض الذنوب أو الصغائر التي لا تتناسب ومقام الإمامة العظمى التي سيقوم بأمرها ، وقد ورد في بعض الآثار أن المهدي يتوب من ذنب ، وصيغة النكرة للذنب فيها معنى الستر وفيها إشارة إلى أن هذا الذنب ليس من الكبائر ؛ لذا نُكِّر تقليلاً له .

الثاني : الإصلاح يراد به تهيئة المهدي رضي الله عنه للقيام بأعبـاء قيادة أمة والإمامة العظمى ،فالإنسان قد يكون صالحاً في نفسه ، لكنه لا يكون كفؤاً لإصلاح أمة أو قيادتها ، وهذا معلوم فإن قيادة أمة يتطلب مؤهلات كثيرة ، خاصة إذا كانت هذه الأمة غارقة في الفتن والمتاهات والضلالات وتسلط الغير عليها ، ففي مثل هذه الحالة لا تحتاج الأمة إنساناً صالحاً فقط ليرشدها سبيل النجاة مما هي فيه فقط ، بل تحتاج قائداً ملهماً تتوفر فيه كل مؤهلات القيادة لكي يستنقذها مما هي فيه ؛ لذا المراد بالإصلاح هنا تأهيل المهدي بكل مؤهلات القيادة التي تتناسب ومقام الإمامة العظمى للأمة ، وهذا يذكرني بموقف النبي عليه السلام مع أبي ذر عندما طلب منه أن يستعمله في الإمارة ونحوها ، فقال النبي عليه السلام لأبي ذر : إنك امرؤ ضعيف يا أبا ذر ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة .

ليلة اصلاح المهدي

فوصف النبي عليه السلام لأبي ذر بأنه ضعيف لا يراد به الانتقاص من صلاح أبي ذر وأمانته وقوة إيمانه ، فهذا معلوم وقوة إيمان أبي ذر رضي الله عنه وصلابته في الحق وصلاحه معلوم ، فالنبي عليه السلام نفسه قد أشار إلى ذلك بقوله أنه ما أضلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر ، وفي رواية أن أبا ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى عليه السلام .

إذا ليس المراد بضعف أبي ذر رضي الله عنه في الحديث عدم صلاحه أو قلة إيمانه أو ارتكابه للمعاصي ، إنما المراد به ضعف مؤهلات الإمارة عند أبي ذر رضي الله عنه ؛ لذا الأولى له ألا يتقلدها .

ومحصلة ما ذكرت أن صلاح المهدي لا يعني بالضرورة كونه قبل تلك الليلة صاحب معاصي ، بل يراد به تأهيله بمؤهلات الإمامة العظمى ، فالإصلاح هنا يراد به التزكية والترقية في الصفات ، لا رفع المعاصي وتنحيتها ، وهو من باب قول الله لموسى عليه السلام « واصطنعتك لنفسي » .

الاصلاح في اللغة

وفي ظني أن الأمر الثاني هو الراجح في حق المهدي رضي الله عنه ، ويعززه قول الإمام علي عن المهدي عليه السلام أنه يشبه النبي عليه السلام في الخُلق ، وفي رواية أنه لم تلبسه فتنة مما يؤكد أن المراد بالإصلاح هو التأهيل والتهيئة لقيادة الأمة ، وذلك بتبصيره بمواطن الخلل في الأمة وطرق العلاج والمنهج الحكيم للخروج من الفتن التي عصفت بها ووسائل تجديد معاني الإيمان فيها ، والقدرة على تأليف القلوب ، والاستبصار بمعالم الرسالة كاملة لكي يعززها في أتباعه ..إلخ
هذا مجمل ما طرحته في موضوع إصلاح المهدي رضي الله عنه يبقى بيان خلاصة المقالة لكي تتم الفائدة من موضوع المقالة .

الخلاصة

1- ما طرحته عن موسى عليه السلام وإصلاحه ووجود ما ظاهره موانع له من كونه المخلص الموعود لبني إسرائيل .. أرى أنه نفسه الذي قد يكون حاصلاً مع الإمام المهدي ، ووفق ذلك لا يمكن للمهدي أن يدعي مهديته أو يدعو لها قبل الإصلاح لأنه يعلم من نفسه وجود بعض الموانع التي تمنعه من هذا الادعاء بالرغم من وجود مؤهلات كثيرة لديه وكفايات معرفة وأداء وإنجاز عالية جداً ؛ لذا يكون المهدي الحقيقي أبعد الناس عن هذا الادعاء ، ومن هذا الوجه أقول أن كل ادعياء المهدية تعجلوا أمرهم في أمر ليس لهم ، بل صاحب الأمر نفسه لا يعلم نفسه يقيناً ، وسياق كثير من الرؤى يشير إلى هذا المضمون كقرائن معززة .

2- هناك تشابه بين قصة موسى عليه السلام وبين قصة المهدي في أن كليهما كاناً مخلصين لأمة مستضعفة .. بل لا أجانب الصواب إن قلت أن موسى عليه السلام هو مهدي بني إسرائيل أو مهدي زمانه .. وهذا الزعم أرشدت له بعض الآيات عن طريق التلميح لا التصريح ..

معنى يصلحه الله في ليلة المهدي

و نلاحظ في قصة موسى عليه السلام هيمنة فكرة صفة الهداية عليه في كل خطواته يقول الله سبحانه وتعالى : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ }القصص22 وعند الطور قال : {إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى }طه10 فهو يطلب الهدى والهداية في كل خطواته .. وعاش تجربة هداية خاصة به كانت من العجائب ؛ لذا نلحظ هيمنة صفة الهادي وتجلياتها في خطاب موسى عليه السلام .. فعندما سأله فرعون من ربكما يا موسى … لم يجد موسى عليه السلام إجابة جامعة مانعة إلى نعت الله بأنه الخالق الهادي حيث قال : {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }طه50 هنا نجد هيمنة صفة الهادي على قلب موسى عليه السلام ويرى أن تجلياتها عامة ومرشدة في الدلالة على الله ؛ لذا نجد عندما بين من هو الله قال هو الخالق لكل شيء والهادي له …

وهذه الآية تحتاج لمقالة منفصلة لتجلية أسرارها .. لكن توحي بطريقة ما على هيمنة صفة الهادي وتجلياتها على موسى عليه السلام … خاصة أنه عاش تجليات هذا الاسم في كل خطوة له خاصة في ذهابه إلى مدين ثم إلى الطور ، ثم في رعيه الغنم عبر التأمل في الموجودات حوله .. من هذا الوجه أقول :

حديث يصلحه الله

تجربة الهداية الخاصة التي عاشها موسى عليه السلام وجعلت صفة الهداية هي المهيمنة على حديثه وفي وجدانه بل نجد يركز على هذه الكلمة حتى في خطابه العام يقول الله سبحانه وتعالى : {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }القصص37

فهو الذي جاء بالهدى من عند الله وهو مهدي بني إسرائيل ، وهو صاحب تجربة الإصلاح حين استلام المهمة ، بل نلحظ أن صفة الهادي كانت في وجدان موسى عليه السلام حتى في اللحظات العيبة جداً بحيث نجده لا يلقي بنفسه إلا عليها ، ففي اللحظات الأخيرة لفرعون عند انبلاج الصبح واستبان بنو إسرائيل المكان مع ولوج النهار علموا يقيناً أنهم وقعوا في مصيدة حيث أن ثلاث جهات لا مجال للحركة والفرار من ناحيتها ، والجهة الرابعة كان يتراءى لهم فرعون وجنوده .. عندها قالوا يائسين إنا لمدركون يا موسى .. يقول الله سبحانه وتعالى : {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }الشعراء61 في هذا الموقف العصيب لم يجد موسى عليه السلام إلا صفة الهادي ليلقيها في حجر بني إسرائيل ويزجرهم بها {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }الشعراء62

إنها الصفة التي كان لموسى عليه السلام تجربة خاصة معها لذا تطفو على السطح دائماً في كل مقام خاصة المواقف العصيبة جداً ، وبالفعل كان الهادي الذي أوحى له طريق الهداية للنجاة وفي نفس الوقت طريق الخلاص من عدوه .. وهذه هي السنن الجارية وكما كان لصفة الهداية النصيب الأوفر من تجربة موسى عليه السلام في تخليص بني إسرائيل سيكون لنفس الصفة الحظ الأوفر في تجربة المهدي في تخليص أمة الإسلام والأرض من الظلم والجور .


3- مزيد في البيان في تجربة موسى عليه السلام في الهداية هو تلك السنوات التي قضاها موسى عليه السلام في مدين في أرض غربة … هناك كانت الفرصة الأوفى لتزكية نفسه وتحقيق توازن لعواطفه الضابطة لغضبه السريع .. فهو هنا في أرض غربة .. ويعيش مجاوراً لرجل صالح .. لذا لا ينبغي بحال أن يجلب له المتاعب .. وهذا يجعله يضبط نفسه مع الغضب في غربته التي ألقت بظلالها حتى على ابنه الأول الذي أسماه جرشوم ، ومعناه ( جار هناك ) أي غريب في بلاد غربة …

فهذه المرحلة استشعر موسى عليه السلام عناية الله به وهدايته نحو الصفات المطلوبة عند استلام المهمة فالله هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى … فصفة الهادي التي عاش موسى عليه السلام في أرقى تجلياتها خاصة في مرحلة الاصطناع والفتون في مدين كان لها الأثر الكبير على هيمنة هذه الصفة على خطابه بما يوحي بالإشارة أنه كان مهدي بني إسرائيل .

4- ما يمكن قوله في الختام أن المهدي قبل الإصلاح هو إنسان عادي جداً ، نعم هو رجل صالح وفيه مؤهلات الإصلاح وله عناصر في الشخصية تميز بها عن جميع من في الأرض وهي عناصر كامنة لوقتها .. لكن هذا شيء وحمل أمانة أمة بأكملها في أشد مراحل الفتن والظلمة التي مرت بها البشرية .. فهذا لا محالة يحتاج إلى إصلاح لا يعلم حقيقته إلا اللطيف الخبير ، وتأخير الإصلاح حتى اللحظة الأخيرة كما ذكرت سابقاً قد يكون لدواعي الحفظ من جهة ولدواعي الاصطناع من جهة أخرى في فرن التمحيص والفتون والابتلاء .

ليلة الاصلاح

وقد أرشدت عشرات الرؤى لهذين المدلولين بوضوح ، مما يشير إلى أنه تدريجياً ينتقل من طور إلى طور حتى يبلغ الطور الأخير الذي معه الإصلاح عندها يطوي مرحلة الرجل الصالح المصلح ليبدأ بمرحلة المجدد الأعظم للأمة … وقد يكون جزء من عملية إصلاحه لها علاقة بنوع من الخلافة التسخيرية التي قد ينالها والله أعلم .

5- موضوع السنن وجريانها عبر التاريخ هو موضوع حيوي وعميق في آن واحد ويحتاج لدراسة متأنية في فهمه من خلال عناصره المتنوعة … وهذه المقالة هي دراسة في جانب منه .

تعليقات
الاسمبريد إلكترونيرسالة